٦‏/١٢‏/٢٠٠٩

عبد الخالق .. نموذج فريد



حين دخلت كلية الحقوق في إحدى جامعاتنا العريقة، لفت انتباهي هؤلاء "الزملاء" الذين كان عمر بعضهم يتجاوز أعمار آبائنا.. وكنت أتساءل عن هذا الإصرار الذي يمتلكونه، والذي يتيح لهم تجاهل الفارق العمري والجلوس في مقاعد الدراسة إلى جوار شباب يصغرونهم بسنوات طويلة؟!!.. إلا أنه منذ أيام أضيفت علامة تعجب جديدة بحجم أكبر؛ وذلك حين رأيت هذا الشيخ الوقور يجلس ليستمع إلى تقييم رسالته للدكتوراه، مجهزًا أوراقه ليدخل الموسوعة العالمية للأرقام القياسية من باب العلم؛ ليصبح الأكبر في الحاصلين على درجة الدكتوراه في العالم؛ فلم يمنعه عمره المتقدم من أن يمنحنا مثالاً نادرًا في الوثوب إلى التفوق والعلم والاجتهاد، ورغم سنواته التي قاربت الأربعة والتسعين إلا أن تطلعه إلى الحصول على درجة الدكتوراه لم يتوقف، وعزمه في مناقشة رسالته التي أعدها منذ ربع قرن لم يلن، ولم تستطع السنوات الطويلة التي مرت من حياته في أن تسرب اليأس إلى أعماقه.

لم يحسبها محمد فريد عبد الخالق- الحاصل على درجة الدكتوراه منذ أيام وعضو الهيئة التأسيسية لجماعة الإخوان المسلمين- بنفس حساباتنا التي تعطي للعمر قيمة أكبر وتقف عند حدوده بشكل لا يقبل التهاون؛ بل تجاهل السن وانطلق يمنح نفسه سعادة اللحظة، ويربي فينا- في الوقت نفسه- ثقافة الطموح التي تغيب عن الآلاف- إن لم يكن الملايين- من شبابنا الذي يحول ضيق ذات اليد أو الانشغال في البحث عن لقمة العيش دون تطلعه إلى درجة علمية أفضل، أو تقدم علمي في تخصصه، أو حتى تجاوز خطوات في اكتساب المهارات التي لم يعد الاستغناء عنها ممكنًا خلال الوقت الراهن.

لم يؤمن بالمثل القاتل- وليس القائل- "بعد ما شاب ودوه الكُتَّاب"؛ فلم ير عيبًا وهو في هذا العمر أن يلبس الروب، ويقف في قاعة درس صغيرة بكلية الحقوق بين يدي أساتذة في عمر أبنائه؛ ليجيب عن تساؤلاتهم، وربما تلعثم في الإجابة عن بعض الأسئلة كما يرتبك جل الذين يناقشون رسائلهم العلمية، ولم ير "الطالب" حرجًا في أن يسنده أبناؤه من اليمين والشمال حتى يتمكن من الوصول إلى ذلك الكرسي الذي طالما تاق إلى أن يجلس عليه في ريعان الشباب؛ ولكنه لم يتنازل عن الجلوس عليه في نهاية العمر.

إنها دعوة مجانية لأن ندرك أن اليأس ليس من شيم الرجال، وأن العلم وطلبه لا يمنعه التقدم في العمر، وأن نوقن بهذه الوصية الرائعة التي كنا نقرؤها على كراساتنا المدرسية، واختفت ضمن ما اختفى من قيم جميلة ومعانٍ رائعة: "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد".

لا أدري.. ربما كان الهدف من إصرار الشيخ على تحقيق هذا الإنجاز بالحصول على الدرجة العلمية التي تأخرت عنه عشرات السنين أن يثبت لنا بالصوت والصورة أن طلب الغايات الكبيرة يحتاج إلى همة كبيرة في نفس الحجم؛ فهل وصلت الرسالة؟!

ليست هناك تعليقات: