١٢‏/١٢‏/٢٠٠٩

بين عام آت .. وأعوام استأذنت في الرحيل!!


ما أقسى أن يشعر الإنسان بأن أيامه تتسلل من بين يديه ، وأن سنوات عمره تمضي إلى غير رجعة لتنضم إلى أخواتها اللاتي تسربن من حياته حتى الآن . هذا الشعور تحديدًا هو الذي شعرت به في هذه الآونة وأنا أراقب مرور 37 عامًا على حياتي في هذه المعمورة .. بالطبع لا يستطيع أحد أن يوقف الأيام التي تتوالى ، أو يهدئ من الساعات التي تهرول ، لذلك أجدني غير مصدق أن هذا العمر لي ، أو أن هذه السنوات الطويلة مرت من حياتي .
أتذكر في طفولتي حين كنت أمر بجوار المدرسة الثانوية وأرى طلابها فارعي الطول يقفون في فناء المدرسة ، كم تمنيت وقتها أن أكبر لكي أصبح مثل هؤلاء الطلاب .. وحين وصلت إلى تلك المرحلة تمنيت أن ألتحق بالجامعة كي أخرج في المظاهرات ، وأركب المواصلات يوميًّا كي أصل للجامعة التي مرت سنواتها دون أن أدري ، ولم أشعر بالطبع بسنة الخدمة العسكرية ، إلى أن بدأت العمل ودارت دورته ، ثم الزواج والأبناء والمسؤولية .. دوامة لا يكاد الإنسان يشعر بها إلا وهي تتقاذفه يمينًا ويسارًا دون أن يدري ....
سنوات مرت لا أدري في أي الموازين كتبت ..
شابتها نجاحات لا حصر لها في نفس الوقت الذي عانيت فيها إحباطات غير قليلة .
تعرفت فيها على أشخاص يطاولون الملائكة في سموهم وهممهم التي ترفرف في السماء ، في الوقت الذي واجهت آخرين قد لا يقلوا عن الشياطين في دناءتهم وانحطاط أخلاقهم ..
أحببت أشخاصًا ولم أرتح لآخرين ..
تمتعت بنعم كثيرة من الله بها علي بينما كان الشكر من جانبي غير متناسب مع جلال هذه النعم وعظمتها ..
ربما كان احتفاء الأشخاص بأيام ميلادهم ظاهرة لا يقبلها كثيرون إلا أنني أرى أنها فرصة لاستعادة التوازن ، والتخطيط للسنوات المقبلة ، ومحطة مهمة في الاستفادة من الأخطاء والسعي إلى تحقيق الأهداف التي لم تتحقق .
سنوات مرت .. ولا أعلم إن كانت ستلحقها سنوات أم شهور أم أيام أم ساعات أم سيتوقف العمر بعد لحظات ..
في وداع عام .. لن أبكي على ما خسرته فيه ولن أفرح بما حققته ..
وفي استقبال عام أعتزم أن يكون أفضل من كل سابقيه .. أجدد العزم .. وأستنهض الهمة .. وأنظر إلى المستقبل بنظرة مختلفة .. وأذكر نفسي بأن أيامنا معدودة ، وأن " فيه ناس تعيش أموات.. وكتير برغم الموت : تحت التراب عايشين "

٦‏/١٢‏/٢٠٠٩

عبد الخالق .. نموذج فريد



حين دخلت كلية الحقوق في إحدى جامعاتنا العريقة، لفت انتباهي هؤلاء "الزملاء" الذين كان عمر بعضهم يتجاوز أعمار آبائنا.. وكنت أتساءل عن هذا الإصرار الذي يمتلكونه، والذي يتيح لهم تجاهل الفارق العمري والجلوس في مقاعد الدراسة إلى جوار شباب يصغرونهم بسنوات طويلة؟!!.. إلا أنه منذ أيام أضيفت علامة تعجب جديدة بحجم أكبر؛ وذلك حين رأيت هذا الشيخ الوقور يجلس ليستمع إلى تقييم رسالته للدكتوراه، مجهزًا أوراقه ليدخل الموسوعة العالمية للأرقام القياسية من باب العلم؛ ليصبح الأكبر في الحاصلين على درجة الدكتوراه في العالم؛ فلم يمنعه عمره المتقدم من أن يمنحنا مثالاً نادرًا في الوثوب إلى التفوق والعلم والاجتهاد، ورغم سنواته التي قاربت الأربعة والتسعين إلا أن تطلعه إلى الحصول على درجة الدكتوراه لم يتوقف، وعزمه في مناقشة رسالته التي أعدها منذ ربع قرن لم يلن، ولم تستطع السنوات الطويلة التي مرت من حياته في أن تسرب اليأس إلى أعماقه.

لم يحسبها محمد فريد عبد الخالق- الحاصل على درجة الدكتوراه منذ أيام وعضو الهيئة التأسيسية لجماعة الإخوان المسلمين- بنفس حساباتنا التي تعطي للعمر قيمة أكبر وتقف عند حدوده بشكل لا يقبل التهاون؛ بل تجاهل السن وانطلق يمنح نفسه سعادة اللحظة، ويربي فينا- في الوقت نفسه- ثقافة الطموح التي تغيب عن الآلاف- إن لم يكن الملايين- من شبابنا الذي يحول ضيق ذات اليد أو الانشغال في البحث عن لقمة العيش دون تطلعه إلى درجة علمية أفضل، أو تقدم علمي في تخصصه، أو حتى تجاوز خطوات في اكتساب المهارات التي لم يعد الاستغناء عنها ممكنًا خلال الوقت الراهن.

لم يؤمن بالمثل القاتل- وليس القائل- "بعد ما شاب ودوه الكُتَّاب"؛ فلم ير عيبًا وهو في هذا العمر أن يلبس الروب، ويقف في قاعة درس صغيرة بكلية الحقوق بين يدي أساتذة في عمر أبنائه؛ ليجيب عن تساؤلاتهم، وربما تلعثم في الإجابة عن بعض الأسئلة كما يرتبك جل الذين يناقشون رسائلهم العلمية، ولم ير "الطالب" حرجًا في أن يسنده أبناؤه من اليمين والشمال حتى يتمكن من الوصول إلى ذلك الكرسي الذي طالما تاق إلى أن يجلس عليه في ريعان الشباب؛ ولكنه لم يتنازل عن الجلوس عليه في نهاية العمر.

إنها دعوة مجانية لأن ندرك أن اليأس ليس من شيم الرجال، وأن العلم وطلبه لا يمنعه التقدم في العمر، وأن نوقن بهذه الوصية الرائعة التي كنا نقرؤها على كراساتنا المدرسية، واختفت ضمن ما اختفى من قيم جميلة ومعانٍ رائعة: "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد".

لا أدري.. ربما كان الهدف من إصرار الشيخ على تحقيق هذا الإنجاز بالحصول على الدرجة العلمية التي تأخرت عنه عشرات السنين أن يثبت لنا بالصوت والصورة أن طلب الغايات الكبيرة يحتاج إلى همة كبيرة في نفس الحجم؛ فهل وصلت الرسالة؟!

١‏/٨‏/٢٠٠٩

المنشد يحيى حوا :أسعى لتحويل النشيد إلى وسيلة للتفاؤل


يرى المنشد السوري يحيي حوَّا أن النشيد الإسلامي حقق مكاسب كبيرة خلال الفترة الأخيرة باعتباره إحدى وسائل الدعوة إلى الله والترفيه في وقت واحد ، وذلك في مواجهة الأغاني الخليعة التي بدأت في الانتشار خلال الفترة الأخيرة ، معتبرًا أن رقعة النشيد زادت بشكل كبير مؤخرًا ، مرجعًا ذلك إلى انتشار القنوات الفضائية المتخصصة في الأناشيد والتي اعتبرها أحدثت طفرة في عالم النشيد بشكل لاحظه الجميع ، كما اعتبر تأخر شهرته أمرًا ليس مقلقًا بالنسبة له ، معربًا عن سعادته بالإنشاد أمام جموع كبيرة من غير العرب ، ولفت إلى أن مستمعيه في إحدى حفلاته في " قيرغيزيا " بكوا تأثرًا بإنشاده الذي ذكَّرهم بالله – تعالى- والرسول – صلى الله عليه وسلم – رغم عدم معرفتهم باللغة العربية إطلاقًا .
وأشار حوا إلى أن نشيده " قلبي شدا" كان مدخله للتعرف على الناس ، ولا يعتبر ارتباط المنشد بأحد أناشيده عيبًا أو نقيصة . كما دعا المنشدين إلى الاهتمام باختيار كلمات أناشيدهم بعناية حتى يستطيعوا توصيل الفكرة والهدف الذي دخلوا من أجله مجال النشيد الإسلامي .

· رغم بدايتك في عالم النشيد منذ فترة إلا أن الناس لم تتعرف عليك إلا منذ عدة سنوات .. فلماذا تأخرت شهرتك ؟
**بداية أنا لم أدخل هذا المجال من أجل الحصول على الشهرة ؛ فالشهرة بالنسبة لي تحصيل حاصل ، والله تعالى أكرمني بالشهرة في وقت متأخر بالفعل ، حيث كانت بدايتي في احتراف النشيد عام 1994 م ، في حين لم يعرفني أغلب جمهوري إلا في عام 2005 م، أي أني بقيت لمدة 11 عامًا في ساحة النشيد قبل أن يتعرف الناس علي بالشكل الحالي .
ولابد أن أشير إلى أن إحدى الوسائل التي نقلتني من المحلية إلى العالمية هي القنوات الفضائية التي اهتمت بإذاعة أناشيدي وبالتحديد " قلبي شدا " ، الذي عرض على تلك القنوات بكثافة مما كان له دور كبير في نقلي إلى عدد كبير من المشاهدين .
· وهل كنت منزعجًا من تأخر شهرتك ؟
**المنشد الذي يخوض هذا المجال لمجرد تحقيق الشهرة وتعرُّف الناس عليه سوف يتأثر – بالطبع- لتأخر الشهرة ، أما بالنسبة لي فالأمر كان طبيعيًّا للغاية ، ولم أتأثر لذلك إطلاقًا ، فأنا أقدم رسالة وأسعى لتعريف أكبر عدد من الناس بها ، فإذا يسر الله وأراد أن يتعرف عليها الناس فهذا فضل من الله ، وإلا فإن المنشد يقدم ما عليه ، وسيسأله الله عمَّا قدم وليس كم شخصًا استمع إلى أناشيده .

· يعرفك جمهورك بأنك صاحب رسالة وتوجُّه ترغب في أن تنقله إلى مستمعيك .. فما الرسالة التي ترغب في توصيلها للناس ؟
**أحمل في قلبي رسالة النشيد التي تدعو إلى التفاؤل وبث الأمل وأن تكون الحياة مشرقة في واقع المسلمين ، وهذه رسالتي التي ألتزم بتحقيقها ، وأدعو جميع المنشدين إلى التحلي بها .
· هل أفهم من كلامك أن النشيد يجب أن يخرج من الشكل التقليدي الحزين الذي يحمل الشجن والأسى إلى صورة أكثر تفاؤلا ؟
** بالفعل أسعى إلى إخراج النشيد من فلك الحزن والبكاء والتباكي ، فالحياة جميلة ، والله خلقنا كي نعيش فيها ونتحدى الأحزان ، ونسعى إلى تعبيد الحياة كلها لله ، وتحويلها إلى حياة صالحة ترضي الله ورسوله ، وأذكر هنا كلمة للشيخ الداعية عائض القرني حين قال: " نريد أن نتعلم كيف تكون الحياة في سبيل الله " فنحن دائمًا نتحدث عن الموت في سبيل الله ، فلماذا لا نسعى إلى الحياة في سبيل الله تعالى وتعليم الناس ذلك ؟ علمًا بأن الحياة في سبيل الله مهمة عظيمة للغاية ، وتحقيقها له فضل كبير عند الله تعالى ، فضلاً عن أنها أصعب من الموت في سبيل الله .

· هل تشعر أنك قدمت إسهامًا ما في عالم النشيد خلال تلك الفترة التي شاركت فيها في هذا المضمار ؟
**بفضل الله .. لي بصمة خلال الأربعة عشر عامًا التي شرُفت خلالها بالعمل في هذا الميدان ؛ عن طريق نشر التفاؤل والأمل ، وأعتقد أن أهم بصمة وضعتها في عالم النشيد هي أنشودة " حياتي كلها لله " والتي تدعو إلى أن يجعل الإنسان حياته كلها لله ، وحرصت فيها على أن تكون للكبار والصغار ، ومن أجل ذلك استعنت بابن أختي لتصويرها معي تليفزيونيًّا ؛ لأن الطفل يصل إلى أقرانه الأطفال بسهولة ويسر .

· بمناسبة الحديث عن الأطفال .. ألم تجرب الإنشاد للأطفال بشكل خاص ؟
** لم أجرب تقديم نشيد خاص للأطفال ؛ لأن ذلك صعب وخطير ، ولكني قدمت أعمالاً للأطفال وغيرهم ، فالتعامل مع الأطفال يحتاج إلى استعداد من نوع خاص ، بعكس ما يعتقد البعض أن أسهل الأعمال هي التي تقدم للأطفال ، ولكني أعتبر العمل للأطفال بمثابة السهل الممتنع.

· عرفك الناس بنشيد " قلبي شدا " ومن يسمع اسمك لابد أن يتذكر هذا النشيد .. فكيف تقيِّم ارتباط المنشد بنشيد يعرفه الناس به ؟
**أرى أن الارتباط بنشيد واحد لا يمثل مشكلة ، بل هو شهادة نجاح للمنشد تعني أنه أنتج نشيدًا ما زال راسخًا في الأذهان ، وبالنسبة لي فلست قلقًا من ارتباطي بنشيد واحد. وأعتقد أن ربط المنشد بنشيد معين ليس عيبًا أو نقيصة في حقه ، فهذا النشيد بمثابة أحد أبنائه أنشده وهو مقتنع به ، فإذا بقي الارتباط به فليست هناك أي مشكلة .
· أنشدتَ في عدد من البلاد غير الإسلامية واستمعتْ إليك أعداد من غير العرب .. فكيف استقبل هؤلاء النشيد الإسلامي رغم عدم إلمامهم باللغة العربية ؟
**حين حضرت حفلات في بلاد غير عربية كنا نفاجأ بالتجاوب الكبير مع النشيد الإسلامي رغم أن معظمهم لا يفهم كلمات الأناشيد، ففي إحدى حفلاتي في " قيرغيزيا " كان نحو 90% من الحضور لا يتحدثون العربية أو يفهمونها ، ورغم ذلك كان البكاء منتشرًا بين الحضور بشكل غير طبيعي ، فسألت منظم الحفل عن سبب بكائهم رغم عدم معرفتهم بالمعنى فقال لي : بمجرد أن ذكرتَ اسم الله – تعالى- ، واسم الرسول – صلى الله عليه وسلم – تحركت مشاعرهم وانهمروا في بكاء متواصل ، فهم يأتون للتزود بشحنات إيمانية .
فالنشيد الإسلامي باب مهم من أبواب الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وفي النشيد تكون تلك الدعوة إلى الله في ثوب قشيب ، وهو أيضًا باب للترفيه الحلال .

· يمر النشيد بعدد من المراحل حتى يصل إلى المتلقي .. فما أصعب مراحل النشيد ؟
**الكلمة واختيارها هي المرحلة الأصعب في إنتاج النشيد الإسلامي ، وأنا شخصيًّا أختار كلماتي بعناية ، وأكون واضعًا عددًا من الأفكار في ذهني ، وأختار الكلمات التي تلبي هذه الأفكار وتعبر عنها بشكل صادق .
وفي بعض الأحيان أختار كلمات لم تكن قد طرأت أفكارها في ذهني ، ومباشرة أعرضها على الشاعر سليم عبد القادر الذي أعتبره بمثابة المرجعية الشعرية لي ، والذي أستشيره في كل ما يتعلق بالأناشيد التي أعتزم تقديمها ، ومن هنا أدعو المنشدين إلى أن يكون لكل منهم مرجع شعري وفني ، وبصراحة يعاني بعض المنشدين من أزمة في اختيار كلمات جيدة ينشدونها ، في حين لا يعاني البعض الآخر- وأنا منهم – من اختيار كلمات مناسبة للنشيد تكون معبرة عن المعاني التي يرغبون في تقديمها للجمهور . مع العلم بأن الكلمة التي تصلح للنشيد قليلة للغاية ، فليس كل شعر يصلح أن يُنشد ، فالكلمة الإنشادية لابد أن تكون سهلة النطق عميقة المعنى حتى تترسخ في أذهان المستمعين ، وتبقى في وجدانهم .

· وكيف ترى توجه بعض المنشدين إلى التخصص في أداء النشيد .. بمعنى اتجاه البعض إلى إنشاد المعاني الإيمانية ، في حين يتجه آخرون إلى الحماسيات وهكذا ؟
**أرى أن ذلك الاتجاه له سلبيات وإيجابيات ؛ إلا أن إيجابياته أكثر ، فأن يتخصص المنشد في أداء نوع معين من الإنشاد ويؤدي فيه بشكل متميز أفضل بشرط أن يكون ملمًّا بباقي ألوان النشيد ويعرف كيف يقدمها . وأعتقد أن التخصص مطلوب في النشيد ويتيح للمنشد الفرصة في الإتقان وإبراز كل مواهبه في أداء النشيد وتوصيله للناس بشكل مناسب مؤدٍ للدور المطلوب منه . وأنا شخصيًّا أعتقد أني أتخصص في النشيد الفكري الدعوي ، وأجد نفسي فيه .

· بعض الأناشيد يشعر المتلقي أن وراءها فكرًا وهدفًا في حين ينعدم ذلك في بعضها الآخر .. فلماذا يغيب الهدف عن أذهان بعض المنشدين ؟
**أعتقد أن ثقافة المنشد هي العامل المهم في اختياره لكلماته ، ولا أنكر أيضًا أن ذلك يعود إلى عدة عوامل أخرى منها مكان إقامته وأسلوبه في الحياة ، ومدى اعتباره للنشيد رسالة وفكرة وليس مجرد عمل يتكسب منه ماليًّا .

· القنوات الفضائية الإنشادية بعثت حيوية كبيرة في مجال النشيد الإسلامي .. كيف تقيِّم دور هذه القنوات في إثراء النشيد الإسلامي ؟
**القنوات الفضائية الإنشادية قفزت بالنشيد الإسلامي خطوات جيدة ، ونقلته إلى مربع جديد قريب من قلوب الناس وأسماعهم ، ولكني أرى أنه ما زال أمامها الكثير في عرض الأناشيد بأشكالها المختلفة وعدم الاقتصار على قوالب معينة ، بالإضافة إلى دورها المنتظر في تحقيق الانطلاق للنشيد الإسلامي إلى العالمية ، وإذا كانت قناتان أو ثلاث أثرت بهذا الشكل في نشر النشيد الإسلامي فكيف سيكون الحال إذا زادت هذه القنوات وأصبحت مقاربة للقنوات التي تذيع وتنتج الأغاني ؟ وأعتقد أن انتشار هذه القنوات توافق مع زيادة رقعة الالتزام والتدين في أنحاء العالم الإسلامي مما أسهم في انتشارها وتزايد الإقبال عليها ।

· هل توافقني إذًا في أن رقعة النشيد الإسلامي قد زادت وتزايدت أعداد المعجبين به والمؤمنين بدوره ؟
**بالطبع ، وهذا الانتشار واضح تمامًا - بفضل الله - في الفترة الأخيرة ، حيث بدأت أعداد المستمعين للنشيد تتزايد بشكل كبير للغاية ، ويكفي للتدليل على ذلك أنه فيما مضى كنا نقف في حفل الإنشاد لنلقي أناشيدنا أمام ألفين أو ثلاثة آلاف مشاهد على الأكثر وكان المنشد وقتئذ في منتهى السعادة لحضور هذا العدد الكبير للاستماع إليه ؛ أما الآن فحضور حفلات الأناشيد يقدر بعشرات الألوف ، فآخر حفل لي في بريطانيا حضره 50 ألف شخص ،وقبله في الجزائر كان عدد الحضور 25 ألفًًا في استاد رياضي ، وهذا تطور كبير خاصة إذا دققت في نوعية الحضور ، حيث بدأ يحضر الحفلات شباب من المتدينين ومن غيرهم ، وهذا نجاح للنشيد الإسلامي في أن يصل إلى فئات ليست على قدر من الالتزام وتحرص – رغم ذلك – على الاستماع للنشيد الإسلامي .

· هناك ملاحظة غريبة ظهرت في الآونة الأخيرة وهي ازدياد إنتاج والإقبال على أغاني الفيديو كليب في نفس الوقت الذي تنتشر فيه الأناشيد الإسلامية .. فكيف تفسر هذه الظاهرة ؟
**هذه الظاهرة ليست جديدة ، بل هي انعكاس عادي لظاهرة التدافع بين الحق والباطل ، تلك السنة الكونية التي أقرها الله في الأرض منذ القدم ، ولكني أعتقد أن النشيد الإسلامي يقف في المواجهة بشكل جاد وينافس تلك الأغاني المنحلة ويكسب منها أرضًا يومًا بعد يوم .

إلى الزكي الطيب... إلى النبي


جبال شاهقة وسهول ووديان ومرتفعات تلك التي تفصل بين مكة والمدينة ॥ لم تكن الرحلة بسيطة بالنسبة لنا رغم الأتوبيس المكيف الذي نستقله ؛ فما بالك بالرحلة التي قطعها النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الصديق ।
بالفعل لا يعرف حجم الجهد والعناء الذي بذله النبي الكريم وصحبه في تبليغ هذه الرسالة إلى شعاب الأرض إلا من زار هذه الديار وتعرف على دروبها الشاقة .
وأنا في طريقي إليه كانت الرهبة تسيطر علىّ تمامًا من تصوري للوقوف بين يديه بعد قليل ، فماذا سأقول لرسول الله ؟
ماذا أقول لرسول الله ؟ سؤال ظل يتردد في خاطري منذ أن بدأت في المسير نحو النبي الكريم ..
هل سأحدثه عن المعاصي التي أرتكبها ليل نهار ؟
هل سأخبره بتفريطي في حق الله وتقصيري في تطبيق سنته المشرفة ؟
هل سأنبئه بعدم التعرف على سيرته أو تطبيق ما استفدته منها ؟
وماذا سأفعل لو سألني رسول الله عن الدين .. ماذا حدث له ؟
وكيف سأتصرف إذا طالبني بالكشف عن أسباب التخلف الذي نعيش فيه وحالة الاستكانة المميتة التي نحياها منذ قرون طويلة ؟
كيف سأرد إذا سئلت عن سنة النبي وهدْيه ؟
ما الحل إذا أعطاني رسول الله مهلة لأحدثه عن أحوال شبابنا ونسائنا وأطفالنا الذين أصبح أهم اهتماماتهم الشات والبلوتوث ؟
وأين سأذهب من الصدّيق إن سألني عن عمري الذي ضاع من دون أن أقدم شيئًا لهذا الدين ؟
وكيف سأفلت إذا أمسك الفاروق بتلابيبي زاجرًا إياي بسبب حالة الموات التي نعيش فيها منذ أن ولدنا إلى أن نموت؟
خشيت من رسول الله لأني ضعيف مقصر لم أقم بما أمرنا به .
أحسست بالرهبة ؛ وكان الأوْلى أن يكون الشوق فقط هو المسيطر على مشاعري في تلك اللحظات التي كنت فيها على مشارف مدينة رسول الله .
ولكنى سأقول لرسول الله ، وقلبي يمتلئ بالخجل ، عذرًا حبيب الله لأنا أضعنا الدين والدنيا ..
وسأسأله : هل ستشفع لنا رغم هذه الأوزار المتراكمة التي نحملها ؟
أعتقد أن عفو الله وكرم رسول الله أكبر من أن يقفا عند حدود معاصينا وشهواتنا وعجزنا .
إلى رحاب الطيب
على أبواب المدينة تذكرت ذلك الحب الذي كان يربط بين قلوب أصحاب النبي الكريم ؛ وهذا الإخلاص الذي أدى إلى إنشاء الأعراب دولة في قلب الصحراء طبقت شهرتها وسيطرتها الآفاق . ولم يكن لها أن تقوم إلا بين أناس جيّش الحب جيوشهم ، ونظّم الإيمان صفوفهم .
وأعتقد أنه من المؤكد أن مجدنا لن يعود إلينا إلا إذا أعدنا الحب إلى مقدمة الصفوف .
يقينًا .. إذا ذكرت المدينة تذكرت الهجرة والمشقة التي تكبدها المسلمون خلالها .
إذا دخلت المدينة طالعك مسجد قباء ، ورائحة المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين ، وتذكرت على الفور عفة نفس عبد الرحمن بن عوف حين رفض أن يأخذ من أخيه شيئًا ، ولا تستطيع نسيان كرم أبى أيوب الأنصاري ، وتبليغ أول سفير للإسلام الدعوة إلى أهل يثرب وترحيبهم به وبنبيه المصطفى الكريم .
وإذا دنوت من تلك الديار ستجد نواة الدولة التي شيدها النبي ، ومركز إيفاد السرايا والغزوات .
هنا كانت ترسم الخطط وتجيّش الجيوش ، في نفس الوقت الذي كانت وشائج الحب والإخاء تزداد عراها يومًا بعد يوم ..
إذن .. لبيك رسول الله
موعد مع النبي
وتحت القبة الخضراء السامقة الزاهية وقفت أتأمل الروعة والبهاء والحسن والجمال .. وفى نفس اللحظة التي استشرفت فيها عبق المشهد النبوي؛ طالعت روعة الحب ودموع الندم ولهيب الشوق وصحوة الإيمان.
وبعد أن استمعت إلى الشيخ على بن عبد الرحمن الحذيفى ، الذي طالما أنصتّ إلى صوته الشجي القوى منذ الطفولة ، واصطففت في الصلاة خلفه إلى جوار آلاف الموحدين ، الذين تراصّوا في صفوف نحسب أنها في نفس المكان الذي وقف فيه أصحاب النبي خلفه في صلواتهم ، فلربما وقف أحدنا مكان قدم عثمان أو بجوار المكان الذي كان يقف فيه بن رباح ، أو الذي كان يفضله بن مسعود ، أو الذي كان يأوي إليه عمار بن ياسر .
وبعد الصلاة كنت على موعد مع النبي الكريم في روضته الشريفة ، ذلك المكان الذي تشرّف بحمل جثمان النبي وصحبيه الكريمين رضي الله عنهما .
استجمعت شجاعتي ودخلت إلى حيث يأوي رسول الله ، خير البشر ، وأطهر الخلق ..
يا إلهي .. أأنا الآن أقف أمام قبر من خرت له الملوك والأمراء ، وتجمع حوله الفقراء والأغنياء ، وتبعه السادة والعبيد ؟ ولا أخفى أنه رغم الفرحة التي كنت أشعر بها إلا أنني كنت أخشى من ألا أكون ذلك الشخص الذي يستحق أن يقف أمام ذاك النبي الكريم ..
وكانت الفرصة سانحة لأن أصلى في الروضة ركعتين " بين قبري ومنبرى روضة من رياض الجنة " ، نعم .. صليت إلى جوار قبر النبي مباشرة ، طلبت منه الشفاعة لي وللمسلمين ، ورجوته أن يتقبل سلامنا وتحياتنا ، وألا يحول التقصير دون القبول .
إنها لحظات بديعة من النقاء الروحي والصفاء النفسي الذي لا يُتوقع أن أعتي أصحاب القلوب قسوة ورعونة يمكنه أن يمنع عبراته من الانسكاب فيها ، أو أن يحجب مشاعره عن أن تفيض معترفة بالشوق والوجد إلى حبيب الله .
والسؤال الذي طرحته على نفسي قبل الانصراف من عند النبي .. ترى .. هل نعود إلى الحياة من جديد بعد زيارة النبي ؟ وهل تفجر فينا تلك الجولة النورانية الخاطفة روحًا جديدة يملؤها الإيمان واليقين ؟
وهل تتحول تلك المشاعر إلى بوصلة توجه مساراتنا وتضبطها إلى حيث يرضى الله ورسوله ؟
سلامًا يا رسول الله من أحد الملايين التي تدرك أنك أفضل الخلق إلا أنها كانت تنتظر زيارتك لتبثك أشواقها ، وتحية لك يا خير خلق الله من قلب طالما رني إلى طيفك الرائع ؛ متمنيًا أن يسعده الله بأن يراك في الدنيا قبل الآخرة .

في رحاب زيارة الحرم



إلى بيت الله الحرام تحركت خطانا ، شوقًا إليه وطمعًا في مغفرته وعفوه .. إلى البيت الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا تتجه أنظارنا وتتوق قلوبنا أن تصل إليه وتستند على جدرانه ، وتلثم شفاهنا أستاره.
إلى تلك الرحاب العامرة نقصد لنراها رأى العين بعد أن ُتِّيمنا بالقراءة عنها منذ نعومة الأظفار ، عرفناها في وله العاشقين وقرأناها في أبيات المادحين القاصدين ، وشممنا عبقها في تلك الروح التي يعود بها من شرفه الله بأن سبقنا إلى هناك .
كم طال شوقي إلى تلك البقاع الطاهرة التي لا تدانيها في الأرض بقعة في الفضل والكرامة ، أخيرًا أسعدني القدر بأن تتجه قدماي إلى البيت الحرام بعد أن قضيت عمري كله أرنو إليه في كل صلاة ، وإليه الآن أسبق الخطى بعد أن سبقني شوقي وقلبي إليه منذ فترة طويلة .
يبدو أنني بالفعل على وشك تحقيق هذا الحلم الذي طالما انتظرته ولكن ، بالقطع ، لم أكن أتخيل أن يكون الآن .. وهاهي نبوءة أحد أصدقائي تحققت حين أخبرته بأن هناك عرضًا وصلني للعمل في أرض الحجاز ولكنى ما زلت مترددًا ، فبادرني قائلاً : إنها دعوة من الله إليك لزيارة البيت الحرام لا تدعها تفوتك ، ورغم أن العرض المادي للسفر ليس مغريًا بما فيه الكفاية إلا أن عبق الحرم كان له الأثر الأكبر في قبولي لعرض العمل في تلك الديار المقدسة .
وهاأنذا أبدأ المسيرة إلى بيت الله الحرام ، لأداء العمرة ، مع الأسابيع الأولى لوصولي إلى المملكة ، ورغم أننا ما زلنا في بداية الرحلة إلا أن نسمات الحرم تهب علينا من بعيد ، وأسراره التي طالما أسرت الزائرين من كل أنحاء الأرض يبدو أنها جذبتني .
أمان الخائفين
إيه يا أرض الحرم .. جئت لاحتمى برحاب بيت الله العتيق ، وألجأ إليه راجيا الأمان في زمن أصبح فيه الخوف يحاصرنا من كل اتجاه ، فإذا لم نخف من فوات الرزق أو سطوة السلطان أو المجهول الذي لا ندرك ماهيته ، فنحن نخاف من المشكلات التي تحاصرنا ليل نهار ، نخاف من أزمة الغذاء التي تسيطر على العالم ، وأشد منها أزمة المياه ، نخاف من الغلاء الذي بدا مسيطرًا على العالم . وإن لم نخف على أمننا واستقرارنا؛ نخاف على مستقبل الأبناء حين يكبرون ، أضف إليه الخوف على الحرية في أوطان لا يملك أحد أبنائها حريته بعد أن أصبح الجميع مدانا إلى أن يثبت العكس ، فضلاً عن الخوف من تلك القوى الشريرة التي لا ترعى إلا ولا ذمة في المؤمنين ، ويطيش شيطانها الأكبر هائمًا على وجهه ممتطيا صهوة فرسه ليقتل ويدمر ويغتال من دون أي رفض منا أو اعتراض .
جئت إلى بيت الله أطلب الأمان وأنا أدرك أنه لن يرد محتميًا بجلاله ، وأعلم أن المكان الذي يأوي طيورًا لا تملك من أمرها شيئًا سوف يقبلنا ويحمينا ويمنحنا الأمن الذي نبحث عنه طول حياتنا .
أعتقد أن هذا الانجذاب نحو تلك الأرض الطاهرة يمثل وحدة للمسلمين من نوع خاص ، فإن القلوب حين تهفو معًا نحو مكان واحد ، وتتطلع إلى نسك مشترك ، لابد وأن تتسع وحدتها لتشمل باقي مناحي الحياة .
والعجب ، كل العجب ، أن تفاجأ بتناحر تلك القلوب رغم هذه الوحدة العجيبة التي تلحظها في المناسك ، وتلك المشاعر الهادرة في خشوع؛ التي تسيطر على الأبيض والأسود من دون فرق ، وهى المناسك التي كانت أجدر بأن تجعل أمتنا أكثر أمم الأرض اتحادًا وترابطًا ।
إحرام وأكفان
الآن.. لبست ملابس الإحرام .. خلعت ثياب الدنيا ، وارتديت ملابس بيضاء .. الجميع فيها سواء .. الغنى والفقير .. الكبير والصغير .. الملك والرعية .. لا فرق بين عظيم وحقير ، فالجميع يخلع أوزاره ويرتدى تلك الملابس البيضاء التي لا تكشف إلا عن مساواة وطلب لفضل الله وغفرانه ، الجميع يزيح عن كواهلهم ما يثقلها ، لا يعيرون الدنيا اهتمامًا ، بل يدركون ساعتها أن الدنيا لا قيمة لها ولا وزن ، تذكرك تلك الملابس البيضاء البسيطة بالكفن الذي يلف به الإنسان حين يهيأ لدخول القبر حين تأتى ساعة النهاية المحتومة والمقررة له .
إنها لحظات ربانية تلك التي أعيشها ، خاصة أنني شارفت على الوصول للحرم عند وقت السحر ، ذلك الوقت الذي تصفو فيه النفوس ؛ فما بالك بوقت السحر في تلك الأراضي المقدسة التي لا تساويها أرض في الفضل أو القدر والقيمة .
ذنوبي قد طغت عنى جوابي .. ولكن أعلم أن الله لطيف بعباده ؛ يغفر الذنوب مهما تعاظمت وكثرت .
إنها رحمة الله التي تجلت على تلك الديار الطاهرة ؛ فجذبت إليها أفئدة المسلمين من كل أنحاء الأرض منذ بعثته صلى الله عليه وسلم وحتى يأذن الله لهذه الدنيا بالفناء والاندثار .
على ثرى مكة
لا أصدق أنني الآن أسير على ثرى مكة ، وأمشى على نفس الأرض التي سار عليها نبي الرحمة الهادي الأمين . فضل من الله أن منحنى هذا الشرف الذي لا أستحقه ، وأنا العبد المقصر الغافل السادر في غيه وطيشه يبطش يمينًا ويسارًا ، شرف لا يدانيه شرف أن تتاح لي زيارة هذه البقاع النورانية الطاهرة ، إنها منحة من الله يعطيها من يشاء من عباده ، أما وقد أعطاها لي فإني أعاهده في هذا الوقت أن أكون أهلا لها .. فمن الحسرة أن يعود الإنسان إلى ذنب باشره قبل ذلك بعد أن شاهد بعينه تلك المشاهد التي لا تنسى .
إذن ... أنا في مكة أرض الرسالة والنبوة والحرم ...
أمام البيت العتيق
أجلس الآن أمام الكعبة مباشرة .. ذلك البيت الذي جعله الله قيامًا للناس ، ما أبهاك وأحلاك يا بيت الله الحرام .
كم من ملايين تشتاق لأن تجلس في هذا المكان الذي أجلس فيه الآن ، متمنين أن يمتعوا أنظارهم برؤية ذلك البيت الجليل . ربى .. هؤلاء الملايين الذين جاؤوا إلى بيتك طاهرين منقين قلوبهم من الآثام والخطايا ، رافعين أيديهم بالدعاء إليك لتقبلهم في رحابك ، طرحوا على بابك ذنوبهم ، واعترفوا بجرائمهم .. يسألونك المغفرة .. فهل تردهم خائبين ؟
أنت يا كريم .. يا من جعلت قلوب الناس تحن إلى زيارة بيتك الحرام كل عام أفواجًا وجماعا ؛ لا ترد هذه الجموع الهادرة إلا مغفورًا لهم . الأبيض والأسود .. الكبير والصغير .. العربي والأعجمي .. الرجال والنساء .. يطوف الجميع حول الكعبة المشرفة التي شرفها الله وزادها تعظيما وإجلالا . ما أبهى بيت الله الحرام ؛ وأحلى الحجر الأسود المقدس الذي تلتف حوله القلوب والأفئدة .
أشعر أن قلوبنا هي التي تطوف وليست الأجساد وحدها .. نوع من الوحدة الإسلامية لا يتكرر في أي مشهد آخر على مستوى العالم كله .
الجميع يطوفون في كل وقت .. صباحًا ومساءً .. في الحر أو تحت المطر ، ليس هناك فرق .. الشوق واحد والمشاعر متأججة ؛ والطمع في مغفرة الله موصول .
ترى لو بقى المسلمون على هذه الحال التي يطوفون بها حول الحرم ؛ هل كان يعجزهم شئ ، أو يجترئ على حماهم غاصب معتدى ؟
وإذا استمر المسلمون على اصطفافهم إلى جوار بعضهم ، كما يفعلون حول الحرم ؛ هل كنا سنسمع عن أراضٍ مغتصبة أو خيرات منهوبة أو أعراض منتهكة أو كرامة مسلوبة في ديار المسلمين ؟
لو طافت هذه الملايين حول الدين وقضاياه كما يطوفون حول الكعبة لما استطاع أحد أن يقول كلمة واحدة طعنًا في هذا الدين .
لو طافت هذه الملايين حول العلم والتقدم والأخذ بأسباب التطور لكان المسلمون في صدارة العالم ؛ وما لحقنا أحد .
لو لفنا الشوق والحب في كل أوقاتنا لشكلت مجتمعاتنا كتلاً هائلة من القوة لم يستطع أن يقهرها أحد .
مشهد العمر
في الطابق الثاني صعدت .. شاهدت أجمل مشهد يمكن أن تراه في حياتك ، البيت شامخ كالشمس المشرقة ؛ وآلاف لا تحصى تطوف حوله كالكواكب التي تدور حول النجم الأكبر .
أكاد أجزم أنني مهما نظرت إلى هذا المشهد الجمالي فائق الروعة ما امتلأت عيني منه ؛ وما رغبت في الجفن أو شعرت بالكلل والإجهاد ، ومهما شاهدت من مناظر خلابة في حياتي فلن أرى مثل هذه اللوحة الربانية البديعة .
وهل هناك مثل هذه القوافل التي تطوف حاملة أمل المغفرة ورجاء العفو من رب العالمين ؟
وفى نفس الطابق تجد الذين لا يستطيعون الطواف حول الكعبة مباشرة يطوفون سواء على الأقدام أو محمولين على عجلات حتى لا تحرمهم إعاقتهم من التبتل إلى المولى الكريم .
وهل هناك إعاقة يمكنها أن تمنع من نيل هذا الخير العميم ؟
وأي تعب أو إرهاق يمكنه أن يصيب أحدًا من هؤلاء الساعين الذين يشعرون بالسعادة والمتعة رغم الجهد الكبير الذي يبذلونه ، إنها متعة الحب والشوق التي تفوق كل تعب أو إرهاق وتتغلب عليه .
وداعا موطن الوحي
إنها رحلة لا يمكن أن تعوض حلاوتها رحلة أخرى مهما كانت ، وكيف يعادل شئ ضوء القمر أو نور الشمس الزاهرة ؟
إلى مكة كانت الزيارة .. ومنها غادرت مرغمًا بعد يوم واحد قضيته فيها ، وهكذا الأوقات السعيدة لا يستطيع الإنسان أن يمسك بتلابيبها فتهرب منه دقائقها الغالية مسرعة تركض إلى أن تجاور أخواتها ..
ولكن رغم أنها كانت ساعات قليلة إلا أن ما شاهدته فيها كان كفيلاً بأن يقلب حياتي رأسًا على عقب ، أو بالأحرى يعدلها إلى ما ينبغي أن تكون عليه .
قيا رحاب حمى بيت الله الحرام سلام إلى لقاء مأمول .
ويا طيور الحمى التي أمتعتني بمشهدها وهى ترفرف على رؤوسنا أسألك دعاء موصولاً لي حين تهب عليك نسمات الحرم .
ويا أيها الجموع التي لا تختفي من حول بيت الله الحرام أسألكم رجاء لله أن يبلغني هذا المشهد مرة أخرى وألا تكون تلك المرة هي الأولى والأخيرة .
ويارب الجميع .. أسالك وحدة لهذه الأمة تجمع بها شعثها وترد بها كرامتها ، وتحقن دماءها ، لأن الأمة في أزمة ليس لها من دونك كاشفة .