١‏/٨‏/٢٠٠٩

في رحاب زيارة الحرم



إلى بيت الله الحرام تحركت خطانا ، شوقًا إليه وطمعًا في مغفرته وعفوه .. إلى البيت الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا تتجه أنظارنا وتتوق قلوبنا أن تصل إليه وتستند على جدرانه ، وتلثم شفاهنا أستاره.
إلى تلك الرحاب العامرة نقصد لنراها رأى العين بعد أن ُتِّيمنا بالقراءة عنها منذ نعومة الأظفار ، عرفناها في وله العاشقين وقرأناها في أبيات المادحين القاصدين ، وشممنا عبقها في تلك الروح التي يعود بها من شرفه الله بأن سبقنا إلى هناك .
كم طال شوقي إلى تلك البقاع الطاهرة التي لا تدانيها في الأرض بقعة في الفضل والكرامة ، أخيرًا أسعدني القدر بأن تتجه قدماي إلى البيت الحرام بعد أن قضيت عمري كله أرنو إليه في كل صلاة ، وإليه الآن أسبق الخطى بعد أن سبقني شوقي وقلبي إليه منذ فترة طويلة .
يبدو أنني بالفعل على وشك تحقيق هذا الحلم الذي طالما انتظرته ولكن ، بالقطع ، لم أكن أتخيل أن يكون الآن .. وهاهي نبوءة أحد أصدقائي تحققت حين أخبرته بأن هناك عرضًا وصلني للعمل في أرض الحجاز ولكنى ما زلت مترددًا ، فبادرني قائلاً : إنها دعوة من الله إليك لزيارة البيت الحرام لا تدعها تفوتك ، ورغم أن العرض المادي للسفر ليس مغريًا بما فيه الكفاية إلا أن عبق الحرم كان له الأثر الأكبر في قبولي لعرض العمل في تلك الديار المقدسة .
وهاأنذا أبدأ المسيرة إلى بيت الله الحرام ، لأداء العمرة ، مع الأسابيع الأولى لوصولي إلى المملكة ، ورغم أننا ما زلنا في بداية الرحلة إلا أن نسمات الحرم تهب علينا من بعيد ، وأسراره التي طالما أسرت الزائرين من كل أنحاء الأرض يبدو أنها جذبتني .
أمان الخائفين
إيه يا أرض الحرم .. جئت لاحتمى برحاب بيت الله العتيق ، وألجأ إليه راجيا الأمان في زمن أصبح فيه الخوف يحاصرنا من كل اتجاه ، فإذا لم نخف من فوات الرزق أو سطوة السلطان أو المجهول الذي لا ندرك ماهيته ، فنحن نخاف من المشكلات التي تحاصرنا ليل نهار ، نخاف من أزمة الغذاء التي تسيطر على العالم ، وأشد منها أزمة المياه ، نخاف من الغلاء الذي بدا مسيطرًا على العالم . وإن لم نخف على أمننا واستقرارنا؛ نخاف على مستقبل الأبناء حين يكبرون ، أضف إليه الخوف على الحرية في أوطان لا يملك أحد أبنائها حريته بعد أن أصبح الجميع مدانا إلى أن يثبت العكس ، فضلاً عن الخوف من تلك القوى الشريرة التي لا ترعى إلا ولا ذمة في المؤمنين ، ويطيش شيطانها الأكبر هائمًا على وجهه ممتطيا صهوة فرسه ليقتل ويدمر ويغتال من دون أي رفض منا أو اعتراض .
جئت إلى بيت الله أطلب الأمان وأنا أدرك أنه لن يرد محتميًا بجلاله ، وأعلم أن المكان الذي يأوي طيورًا لا تملك من أمرها شيئًا سوف يقبلنا ويحمينا ويمنحنا الأمن الذي نبحث عنه طول حياتنا .
أعتقد أن هذا الانجذاب نحو تلك الأرض الطاهرة يمثل وحدة للمسلمين من نوع خاص ، فإن القلوب حين تهفو معًا نحو مكان واحد ، وتتطلع إلى نسك مشترك ، لابد وأن تتسع وحدتها لتشمل باقي مناحي الحياة .
والعجب ، كل العجب ، أن تفاجأ بتناحر تلك القلوب رغم هذه الوحدة العجيبة التي تلحظها في المناسك ، وتلك المشاعر الهادرة في خشوع؛ التي تسيطر على الأبيض والأسود من دون فرق ، وهى المناسك التي كانت أجدر بأن تجعل أمتنا أكثر أمم الأرض اتحادًا وترابطًا ।
إحرام وأكفان
الآن.. لبست ملابس الإحرام .. خلعت ثياب الدنيا ، وارتديت ملابس بيضاء .. الجميع فيها سواء .. الغنى والفقير .. الكبير والصغير .. الملك والرعية .. لا فرق بين عظيم وحقير ، فالجميع يخلع أوزاره ويرتدى تلك الملابس البيضاء التي لا تكشف إلا عن مساواة وطلب لفضل الله وغفرانه ، الجميع يزيح عن كواهلهم ما يثقلها ، لا يعيرون الدنيا اهتمامًا ، بل يدركون ساعتها أن الدنيا لا قيمة لها ولا وزن ، تذكرك تلك الملابس البيضاء البسيطة بالكفن الذي يلف به الإنسان حين يهيأ لدخول القبر حين تأتى ساعة النهاية المحتومة والمقررة له .
إنها لحظات ربانية تلك التي أعيشها ، خاصة أنني شارفت على الوصول للحرم عند وقت السحر ، ذلك الوقت الذي تصفو فيه النفوس ؛ فما بالك بوقت السحر في تلك الأراضي المقدسة التي لا تساويها أرض في الفضل أو القدر والقيمة .
ذنوبي قد طغت عنى جوابي .. ولكن أعلم أن الله لطيف بعباده ؛ يغفر الذنوب مهما تعاظمت وكثرت .
إنها رحمة الله التي تجلت على تلك الديار الطاهرة ؛ فجذبت إليها أفئدة المسلمين من كل أنحاء الأرض منذ بعثته صلى الله عليه وسلم وحتى يأذن الله لهذه الدنيا بالفناء والاندثار .
على ثرى مكة
لا أصدق أنني الآن أسير على ثرى مكة ، وأمشى على نفس الأرض التي سار عليها نبي الرحمة الهادي الأمين . فضل من الله أن منحنى هذا الشرف الذي لا أستحقه ، وأنا العبد المقصر الغافل السادر في غيه وطيشه يبطش يمينًا ويسارًا ، شرف لا يدانيه شرف أن تتاح لي زيارة هذه البقاع النورانية الطاهرة ، إنها منحة من الله يعطيها من يشاء من عباده ، أما وقد أعطاها لي فإني أعاهده في هذا الوقت أن أكون أهلا لها .. فمن الحسرة أن يعود الإنسان إلى ذنب باشره قبل ذلك بعد أن شاهد بعينه تلك المشاهد التي لا تنسى .
إذن ... أنا في مكة أرض الرسالة والنبوة والحرم ...
أمام البيت العتيق
أجلس الآن أمام الكعبة مباشرة .. ذلك البيت الذي جعله الله قيامًا للناس ، ما أبهاك وأحلاك يا بيت الله الحرام .
كم من ملايين تشتاق لأن تجلس في هذا المكان الذي أجلس فيه الآن ، متمنين أن يمتعوا أنظارهم برؤية ذلك البيت الجليل . ربى .. هؤلاء الملايين الذين جاؤوا إلى بيتك طاهرين منقين قلوبهم من الآثام والخطايا ، رافعين أيديهم بالدعاء إليك لتقبلهم في رحابك ، طرحوا على بابك ذنوبهم ، واعترفوا بجرائمهم .. يسألونك المغفرة .. فهل تردهم خائبين ؟
أنت يا كريم .. يا من جعلت قلوب الناس تحن إلى زيارة بيتك الحرام كل عام أفواجًا وجماعا ؛ لا ترد هذه الجموع الهادرة إلا مغفورًا لهم . الأبيض والأسود .. الكبير والصغير .. العربي والأعجمي .. الرجال والنساء .. يطوف الجميع حول الكعبة المشرفة التي شرفها الله وزادها تعظيما وإجلالا . ما أبهى بيت الله الحرام ؛ وأحلى الحجر الأسود المقدس الذي تلتف حوله القلوب والأفئدة .
أشعر أن قلوبنا هي التي تطوف وليست الأجساد وحدها .. نوع من الوحدة الإسلامية لا يتكرر في أي مشهد آخر على مستوى العالم كله .
الجميع يطوفون في كل وقت .. صباحًا ومساءً .. في الحر أو تحت المطر ، ليس هناك فرق .. الشوق واحد والمشاعر متأججة ؛ والطمع في مغفرة الله موصول .
ترى لو بقى المسلمون على هذه الحال التي يطوفون بها حول الحرم ؛ هل كان يعجزهم شئ ، أو يجترئ على حماهم غاصب معتدى ؟
وإذا استمر المسلمون على اصطفافهم إلى جوار بعضهم ، كما يفعلون حول الحرم ؛ هل كنا سنسمع عن أراضٍ مغتصبة أو خيرات منهوبة أو أعراض منتهكة أو كرامة مسلوبة في ديار المسلمين ؟
لو طافت هذه الملايين حول الدين وقضاياه كما يطوفون حول الكعبة لما استطاع أحد أن يقول كلمة واحدة طعنًا في هذا الدين .
لو طافت هذه الملايين حول العلم والتقدم والأخذ بأسباب التطور لكان المسلمون في صدارة العالم ؛ وما لحقنا أحد .
لو لفنا الشوق والحب في كل أوقاتنا لشكلت مجتمعاتنا كتلاً هائلة من القوة لم يستطع أن يقهرها أحد .
مشهد العمر
في الطابق الثاني صعدت .. شاهدت أجمل مشهد يمكن أن تراه في حياتك ، البيت شامخ كالشمس المشرقة ؛ وآلاف لا تحصى تطوف حوله كالكواكب التي تدور حول النجم الأكبر .
أكاد أجزم أنني مهما نظرت إلى هذا المشهد الجمالي فائق الروعة ما امتلأت عيني منه ؛ وما رغبت في الجفن أو شعرت بالكلل والإجهاد ، ومهما شاهدت من مناظر خلابة في حياتي فلن أرى مثل هذه اللوحة الربانية البديعة .
وهل هناك مثل هذه القوافل التي تطوف حاملة أمل المغفرة ورجاء العفو من رب العالمين ؟
وفى نفس الطابق تجد الذين لا يستطيعون الطواف حول الكعبة مباشرة يطوفون سواء على الأقدام أو محمولين على عجلات حتى لا تحرمهم إعاقتهم من التبتل إلى المولى الكريم .
وهل هناك إعاقة يمكنها أن تمنع من نيل هذا الخير العميم ؟
وأي تعب أو إرهاق يمكنه أن يصيب أحدًا من هؤلاء الساعين الذين يشعرون بالسعادة والمتعة رغم الجهد الكبير الذي يبذلونه ، إنها متعة الحب والشوق التي تفوق كل تعب أو إرهاق وتتغلب عليه .
وداعا موطن الوحي
إنها رحلة لا يمكن أن تعوض حلاوتها رحلة أخرى مهما كانت ، وكيف يعادل شئ ضوء القمر أو نور الشمس الزاهرة ؟
إلى مكة كانت الزيارة .. ومنها غادرت مرغمًا بعد يوم واحد قضيته فيها ، وهكذا الأوقات السعيدة لا يستطيع الإنسان أن يمسك بتلابيبها فتهرب منه دقائقها الغالية مسرعة تركض إلى أن تجاور أخواتها ..
ولكن رغم أنها كانت ساعات قليلة إلا أن ما شاهدته فيها كان كفيلاً بأن يقلب حياتي رأسًا على عقب ، أو بالأحرى يعدلها إلى ما ينبغي أن تكون عليه .
قيا رحاب حمى بيت الله الحرام سلام إلى لقاء مأمول .
ويا طيور الحمى التي أمتعتني بمشهدها وهى ترفرف على رؤوسنا أسألك دعاء موصولاً لي حين تهب عليك نسمات الحرم .
ويا أيها الجموع التي لا تختفي من حول بيت الله الحرام أسألكم رجاء لله أن يبلغني هذا المشهد مرة أخرى وألا تكون تلك المرة هي الأولى والأخيرة .
ويارب الجميع .. أسالك وحدة لهذه الأمة تجمع بها شعثها وترد بها كرامتها ، وتحقن دماءها ، لأن الأمة في أزمة ليس لها من دونك كاشفة .



ليست هناك تعليقات: