١١‏/١٠‏/٢٠٠٧

"البلح الطائر" دليل تكافل المصريين!


تثبت الأيام كل يوم أن شعبنا ما زال ينبض بالحياة، لم يفقد التنفس أو الإحساس بالحياة بعد ،وأنه شعب ودود لم تفارقه المودة والتعاطف الذي يميز أهله منذ القدم وتراجع قليلا ـ لكن لم يختفي - الاعتقاد بأننا فقدنا الإحساس ببعضنا أو تبين الشعوب بالتراحم والتعاطف بيننا إلى حد كبير

ولا شك أن البعض قد يعترض على وجهة نظري ، مبدين تأكيدهم أن المصريين اصبحوا أكثر أنانية وحرصا ، وأقل تعاونا وتواصلا مع الآخرين ، وقد يسوق هؤلاء أدلة من قبيل الحوادث التي تقع بين الحين والآخر، ونفاجأ فيها بأن أخًا قتل أخاه ، أو أبا انتزعت الرحمة من قلبه فألقى أبناءه إلى مصيرهم المحتوم

كما قد يتذرع هؤلاء بالأبناء القاسية قلوبهم على آبائهم وأمهاتهم فلجأوا إلى الاعتداء عليهم أو قتلهم و إنهاء حياتهم
ولا شك أن ذلك كله يحدث وأكثر ، فكلنا يتابع الأحداث، ويدرك أن هناك فئة من المصريين لم تعد قلوبها تنبض ، ولم يمسي الدم المصري يجري في عروقهم ، فلجأوا إلى نهب أموال أبناء جلدتهم ، بل وتفريغ بعض البنوك من كل مواردها المالية ، ويدرك المتابع العادي أيضا أن هناك نوعا من اللا مبالاة والأنانية والأنا مالية أصبح هو المسيطر على قطاع آخر من أبناء شعبنا

إلا أنني مع ذلك ما زلت مصرًا على موقفي ، مشددًا على استمرار الغالبية العظمى على أخلاقها ومبادئها وحبها الفطري للخير وخدمة الناس وإيثارهم على أنفسهم ولو كان بهم
وتعمق لدى هذا اليقين خلال هذا شهر رمضان الذي تنفسنا عبيره وتعرضنا لنفحاته خلال الأيام الماضية

ولا شك أنك -عزيزي القارئ - طالعت بعضًا من هذه السلوكيات التي سأشير إليها باختصار ، أو كنت أنت شخصيا واحدًا من أبطال هذه المواقف الرائعة التي قل أن تجدها في شعب آخر من شعوب الأرض
البلح الطائر

واسمحوا لي أن ابدأ بواحدة من الظواهر الرمضانية المميزة التي أتعرض لها يوميا ،وأكون في قمة السعادة بها

وأعني ظاهرة (البلح الطائر) وهي فكرة مصرية عبقرية تقوم خلالها أعداد لا حصر لها من الشباب عن بداية كل منطقة أو مدينة أو قرية تقع على أحد الطرق السريعة بإعداد أكياس من البلح الجيد وتوزيعها على ركاب السيارات التي تمر حاملة الصائمين والتي يتصادف مرورهم أمام تلك المناطق وقت صلاة المغرب أو قبله

بدأت الظاهرة بالبلح لكنها لم تنته عنده حيث بدأ البعض يفكر في وسائل أخرى لإفطار الصائمين إفطارا سريعا (تيك أواى) ، فأصبح هناك من يوزع العصائر الطازجة أو علب الأرز باللبن أو عبوات العصير الجاهزة ، فضلا عن المشروبين الأشهر للصائمين وهما العرقسوس والتمر الهندي

وهي الظاهرة التي أعاينها كل يوم وأسعد بها للغاية، ليس بسبب البلح والمشروبات الشهية التي أحصل عليها فقط ، حيث أني واحد من معتادى الإفطار في سيارات الميكروباص خلال رحلتي في العودة من عملي إلى حيث الإفطار مع زوجتي وأبنائي، لكن مصدر سعادتي هو أن هذه الظاهرة تثبت لي يوما بعد يوم أن الخير في هؤلاء المصريين رغم ظروفهم التي لا تسر عدوًا فضلا عن الحبيب

الصواني المغطاة

أما ثاني الظواهر فهي ما أطلقت عليها اسم "الصواني المغطاة" حيث تجد وقت الإفطار الكثير من الصواني التي يتم تغطيتها بأوراق الصحف ، وتحمل وجبات ساخنة تتجه كل يوم إلى حيث تسلم عائلات لا تستطيع تدبير إفطار لأبنائها ।وهى الظاهرة التي تعتبر استنساخا لصورة هائلة من صور التكافل التي يتميز بها المصريون في المناسبات ، خاصة في المآتم حيث يصبح من الطبيعي أن يرسل الجيران الى أهل المتوفى تلك الصواني المغطاة لتكون طعامهم في الوقت الذي يغطى الحزن على أي استعداد لديهم لإعداد طعام أو اشتهائه .ولعل هذا الاستنساخ يمثل سلوى لهؤلاء المحتاجين الذين ينتظرون مثل هذه المواسم لتناول أنواع ليست ضيفا دائما على مائدتهم

ولا تبتعد عن تلك الظاهرة ما أشاهده في شارع فيصل – بالتحديد – كل يوم قبيل الإفطار حين تتوقف سيارت فارهة أمام بعض الفقراء أو جامعي القمامة الذين ينتشرون بطول الشارع في هذا الوقت ، ليعطيهم قائد السيارة وجبة تكفى لإفطار شخص أو أكثر ، وهى ظاهرة ليست قديمة ، وأعتقد أنها استجابة طبيعية من المقتدرين على زيادة أعداد المحتاجين

الموائد العامرة

ولست في حاجة للكتابة عن " موائد الرحمن " التي أصبحت واحدة من العلامات المميزة لشهر الصيام ، وبدأت تنضم سنويا أعداد أكبر من أصحاب هذه الموائد الرمضانية التي تمتد لتشمل بكرمها أعداد أكبر من الذين بخلت عليهم الدنيا لدرجة أنها بخلت عليهم بوجبة جيدة يتناولونها في بيوتهم فاضطروا للحصول عليها في الشارع ، إلا أنه في النهاية يبقى المعنى التكافلي في تلك الموائد الرحمانية الخيرة واضحًا

شنطة الخير

وتبقى " شنطة رمضان " وهى واحدة من الأفكار العبقرية التي ابتكرها المصريون للتغلب على العوز الذي ينتاب الآلاف في نفس الوقت الذي يمنع الحياة هؤلاء من أن يتناولوا طعامهم في الشارع أو يقبلوا صدقات مباشرة من المحسنين

و" شنطة رمضان " لمن لا يعرفها هي فكرة يتم على أساسها جمع أهم ما تحتاجه البيوت خلال شهر رمضان من سمن وسكر ومكرونة وعدس وقمر الدين والبلح ، وغيرها من الأصناف التي لا يخلو منها أي مطبخ مصري خلال تلك الأيام المباركة ، ولأنهم يشعرون بمعاناة الفقراء تقوم أعداد متزايدة كل عام من المحسنين والنشطاء بتجميع هذه " الشنطة " وتوزيعها على فقراء الحي الذي يسكنون فيه

وهذه الظواهر بلا شك بعض مما يشهده الشارع المصري من علامات التكافل والمودة التي يراهن بها المصريون على أن تكافلهم لم يذوب ، وأن تعاطفهم وسعيهم للخير سيبقى الى الأبد


ليست هناك تعليقات: